“كانت الطائرة مكتظة، واستغرقت وقتاً طويلاً جداً في الوصول إلى مقعدي، وعندما وصلت وجدت أن خزانة الأمتعة فوق المقاعد ممتلئة، فدفعت حقيبة الظهر التي ا أحملها إلى أسفل المقعد الذي أمامي، كان مقعدي في المنتصف وكان جاري قد استوليا على مَسْنَدِي الذراعين فاضطررت إلى أن أحشر نفسي في المنتصف، فأضم مرفقي إلى ضلوعي أو أطويهما في حضني! ”
هذه هي الفقرة الافتتاحية لمقالة “الطائرات المتقلصة العجيبة”- بمجلة العلوم للعموم، على لسان رايان برادلي واصفاً المعاناة التي عاشها خلال رحلة طيران لشركة أميركان إيرلاينز، الغريب أن تلك المعاناة لم تكن بسبب أن حجم الطائرة صغير، في الواقع أن الطائرات ازدادت حجماً ومساحة فجميع طائرات بوينج 737 قد ازداد طولها ب 13 متراً عن تصميمها الأصلي.
أن أعرف الآن الأسئلة التي تدور في ذهنك: أين ذهبت هذه المساحة ؟ ولماذا لم تستخدمها شركة الطيران لتجعل رايان يشعر بالراحة؟ وأين الإلهاء في الموضوع؟ ومن رايان هذا؟ هل هو مصمم؟! وما علاقتي أنا بهذا كله ؟!… أدعوك للاستمرار وأعدك أنك ستفهم الصلة.
استمر استمر بالتصفح: التّمرير اللّامتناهيّ Infinite Scrolling
لنترك رايان حتى ينهى رحلته من فينيكس إلى سان فرانسيسكو التي تستغرق ساعتين بالطائرة ولننتقل إلي فيسبوك … الإلهاء + فيسبوك… الآن يبدو كلامي منطقياً، أليس كذلك؟
“التكنولوجيا الرقمية تميز دوافعنا قبل نَوَايَانَا، لاستغلال مواطن ضعفنا النفسية من أجل توجيهنا نحو أهداف قد لا تتوافق مع أهدافنا.”
هذه جملة تبدو مقتبسة من بحث علمي!؟ صحيح… ولكن دعني أوضحها بمثال.
ربما تدخل فيسبوك لتفتح رابط مقال كنت حفظته في المفضلة ولكن تجد نفسك تُعلق على كوميك شاركه أحد أصدقائك يشمت في خسارة أرسنال من ليفربول ! هذا السلوك لم تمارسه بحرية، وعن اقتناع ولكن الطريقة التي أنشئ وصمم بها هذا المنتج الرقمي “فيسبوك” حكمت عليك ان تصل لهذه النتيجة التي تستمر في توزيع انتباهك إلى أكثر من شيء.
لقد غلف هذا المنتج الرقمي نفسه بمسار خطي لا نهائي من المحتوى المتنوع ( صور + فيديو + بث مباشر + مقالات داخلية + إعلانات …إلخ ) فيعرض المحتوى دون مقاطعة. ولكن هذا المنتج الرقمي يعرف واحدة مما أُسميهم “قواعد الإلهاء“:
إن المستخدم عندما يقضي وقتاً في التمرير اللامتناهي في اتجاه واحد “طولياً” سيزحف الملل إليه تدريجياً.
كيف إذا حل فيسبوك هذه المعضلة ؟ اثناء تصفحك تجد بعض العناصر التي تكسر ذلك الخط الرأسي، بأن يتم تحويل تحريكها من الأفقي الى الرأسي ليكسر الملل … ويستمر في الإلهاء.
العودة لرايان
لنعود الآن لمعاناة رايان مع المقعد والرحلة، لقد اتفقنا أن المشكلة ليست في حجم الطائرة ففي الواقع ازداد حجمها عبر السنوات ولكن لم تزيد شركات الطيران المساحة الفارغة بين المقاعد لتريح المسافرين، بل زادت عدد المقاعد لتزيد أرباحها !
ولكي يتغلب مصممو الطائرات على هذه المعاناة التي يعلمون جيداً أنها تعكر صفو المسافر / المستخدم، قاموا بحقن تجربة الطيران بعناصر الإلهاء: الوجبات الخفيفة المجانية، المنديل المعطر، التلفاز، الواي فاي المجاني داخل الطائرة وأدوات الترفيه الأخرى.
ما الذي فعله مصممو الطائرة ؟
لم تستطع التغلب على التجربة التي يعاني منها المستخدم … شتته عن عمد.
التحكم في نسبة الانتباه
عندما تقوم بتصميم صفحة هبوط لحملة تسويقية Landing Page، فإنها في الغالب تدفع المستخدم لهدف واحد: التسجيل بالموقع، شراء منتج أو كتاب. . . إلخ، واحدة من الأسباب التي تجعل أي صفحة هبوط ناجحة هو أن تكون نسبة الانتباه فيها 1: 1، ما هي نسبة الانتباه تلك؟ هل هو مصطلح مبتدع! ربما ولكن له منطق ومعنى. . .
نسبة الانتباه Attention Ratio هي: نسبة الأفعال، الأنشطة، التفاعلات التي يمكن للمستخدم القيام بها / عدد الأشياء التي يجب على المستخدم القيام بها.
- التفاعلات التي يمكن للمستخدم القيام بها
اضافة بيانات، الضغط على رابط، الضغط على زر - الأشياء التي يجب أن يقوم بها وهي تمثل الهدف من الصفحة
التسجيل بالموقع مثلاً
اذا لم تحقق نسبة 1:1 فسوف يشار الى صفحة الهبوط على أنها مثال سئ للتسويق. حسناً ماذا تريد الآن ؟
التشتيت كأداة قوية لتقليل تأثير التجارب المؤلمة
ما اقترحه هنا هو قلب النموذج المثالي لتصميم صفحة الهبوط واستخدام هذا النموذج المقلوب وتطبيقاته عندما تقرر أن تلهي المستخدم عن عمد، وتزيد من العناصر التفاعلية بالتوازي مع المهام التي يجب أن يقوم بها المستخدم على الصفحة.
حتى هذه اللحظة وانا اكتب هذا المقال، لم اكن متاكد ان الفكرة التي أطرحها هنا صالحة ١٠٠٪ حتى قرأت ذلك المقال اللطيف علي Medium والذي أعطاني دافعاً قوياً ان استمر في اقناعك بان الإلهاء ربما يكون أداة في التصميم !
ماذا يقول هذا المقال اختصاراً؟ هذا المقال يا عزيزي يفند مجموعة من التجارب، الأفكار والأبحاث التي أجريت في فائدة التشتيت والإلهاء لتخفيف آلام أدمغتنا، وكيف أن التشتيت أداة قوية لتقليل تأثير التجارب المؤلمة أو السلبية !
على سبيل المثال، كلنا نعلم أن الأطفال تنتابهم نوبات من الهلع والقلق قبل الجراحة. من المعروف أن تقليل مستويات القلق قبل الجراحة أمر مهم لفعالية التخدير وتقليل الوقت اللازم للعودة من مفعول التخدير. يحتاج الأطباء إلى بدائل للأدوية المهدئة للحفاظ على هدوء الأطفال. في دراسة أجرتها McGonigal – مصممة ألعاب أمريكية، تدافع عن استخدام التكنولوجيا الرقمية لتوجيه السلوك إلى الإيجابية – استخدمت فيها التشتيت للحد من قلق الأطفال.
في الدراسة، أعطيت مجموعة من الأطفال أدوية مضادة للقلق قبل الجراحة، لعبت مجموعة أخرى من الأطفال ألعاب الفيديو، في حين لم يعطى أي دواء ولا ألعاب فيديو لمجموعة ثالثة قبل الجراحة. كان الأطفال في مجموعة ألعاب الفيديو هم الوحيدون الذين أظهروا نقصًا في القلق قبل الجراحة. كما أنهم كانوا بحاجة إلى تخدير أقل أثناء العملية وعانوا من آثار جانبية أقل بعد الجراحة مقارنة بالأطفال في المجموعتين الأخريين.
أين ومتى يمكن ان اتدخل بعناصر الإلهاء في التجرية ؟
في الحقيقة هذا الأمر معقد، لأن الفكرة التي أناقشها هنا تبدو فكرة غريبة، هل تجربة الاستخدام / التصميم يحارب التشتت أم يصنعه؟ والافتراض الذي أطرحه هنا هو أن نصنعه ولكن بحرص وفي توقيت معين.
عندما تجد منحنى التجربة يتجه إلى الأسفل، عندما تجد الخط الذي يسجل انطباع المستخدم ينحدر نحو الأسوأ، حاول أن تتغلب على الأسباب التي تجعله هكذا، وإن لم تستطع شتت انتباه المستخدم عن هذا الانطباع السيئ قدر الإمكان.
صندوق أدوات الإلهاء !
إذا ما حاولنا تلخيص أفكار الإلهاء / التشتيت التي تناولناها في الأمثلة السابقة في صندوق يحوي خطوات عملية يمكن أن نستفيد منها في حال أردنا خوض الطريق الوعر لتشتيت المستخدم عن قصد، هذه الأدوات اعتبرها بداية، أنا متأكد أنك قادر على إضافة المزيد من أدواتك الخاصة للتشتيت والإلهاء:
- إكسر روتين عرض المحتوى لتجنب الملل في ثلاثة اتجاهات:
- النوعية: صور – اقتباسات – فيديو – خريطة تفاعلية … الخ
- التنسيق: التنويع في الألوان، الخطوط، الدمج بين النصوص والصور بطريقة مبتكرة …الخ
- التفاعل: كما فعلت فيسبوك، عندما تجد ان مهمة التفاعل التي يقوم بها المستخدم مستمرة لفترة طويلة، اكسر ملل التفاعل بأن تدفع المستخدم لتغيير نشاطه ( التنويع بين التمرير الأفقي والعرضي كمثال )
- الزيادة الغير مفرطة في نسبة الانتباه
- هل من الممكن – لتجربة الاستخدام – أن تبسط نفوذها خارج إطار الشاشات؟ وما أتحدث عنه هنا هو أن تجربة الاستخدام لأي منتج / خدمة أو علامة تجارية لديها جذور وروابط خارج المواقع والتطبيقات، ومثال على هذه الأفكار التي ناقشها مقال سابق هنا على معمل ألوان: مقدمة لمفهوم تجربة الانتظار Experience Of Waiting
الخلاصة
في بعض الأحيان ربما نواجه مشاريع يطلب أصحابها بعض الممارسات التي في حكم المنطق تسبب معاناة في التجربة للزبائن / المستخدمين، أحد آخر الأوراق التي تلعب بها كمصمم هو أن تلهي المستخدم عن الشعور بهذه المعاناة، فأنت المتحكم في حالة المزاج، الطريق الذي يسير فيه والمحتوى الذي يراه ويتفاعل معه، بمعنى آخر أنت المسؤول عن كتابة وإخراج المشهد كاملاً.
هل انا ادعوك الى البحث عن تقنيات للإلهاء المرتبطة بالسلوك بحيث تطبقها في عملك كمصمم وبالتالي تجعل المستخدم يرتبط بالمنتج الرقمي أكثر، ويقضى وقتاً أطول يستمتع، ويكسب عميلك… ربما – يبدو هذا سؤال ساذج فلقد افرغت فقرة كاملة بعنوان “صندوق أدوات الإلهاء !” ، ولكن ألا تتفق معي أنها تبدو صفقة مربحة لكل الأطراف!
وربما لم يعد هذا خياراً أو قراراً تتخذه بحرية، فنحن كمصممين أصبحنا ضحية الانسياق خلف ما يسمى MegaTrends التي إن لم نلتزم بها سنُتهم بالتخلف والرجعية التصميمية، كما أنه وبسبب القيود التي يفرضها علينا العميل، السوق، ظروف العمل وضروريات النجاح في الصناعة، جعلت “تصميم تجربة استخدام صافية” هو أمر مستحيل وأنا حقيقة أتعاطف معك لأننا سوياً في هذه المشكلة.
عندما تأتي فقرة الحديث عن أخلاقيات المهنة، سيتحدث ضميرك بأنك تعرف جيداً أن هذا الحل الذي صنعته به تكتيكات إلهاء متعمدة. أجرى مع ضميرك حواراً بهدوء: هل أترك المستخدم يعاني ؟ في كل الأحوال صاحب المشروع / العميل سينفذ ذلك النموذج الربحي الذي سيعاني منه المستخدم، هل أتركه ينفذه ببشاعته الكاملة ؟ أم على الأقل أحاول أن أخفف الأضرار الجانبية ؟
التعليقات اترك تعليقك على المقال 2 تعليقان
مقال أكثر من رائع, أتابع أعمالك منذ pixll…, أتمنى متباعة الكتابه بعد هذا الإنقطاع الطويل.
قرأت الموضوع كاملًا وهو واقعيًا ومفيد جدًا. نرجوا منكم المزيد مع الإكثار من التطبيقات العملية.
شكر الله لكم.